الأربعاء، 22 أبريل 2009

متى صدر مرسوم بتسمية الوردة؟ تساؤلات نيرودا في ديوانه الأخير



في لحظات توجس الذات , تتجه مجسات العقل لفتح باب يطل على الطمأنينة او البراءة بهدف الوصول الى السكينة و التمكن من القلق و تقشير خشونة العالم , و قد تكون الطفولة احد اوجه تلك البراءة و مكمن الطمأنينة المنشودة , لكن نيرودا الثوري بأبعاد ثوريته الثلاث ( الشاعر / العاشق / السياسي ) اقتنصها بحكمة شيخ مدمن الوجود , مختارا قرار الاستمرار قبل الحياة و بعد الموت في مناهضة صارمة لكنها تتميز بالهدوء ايضا للموت الزاحف نحوه بزي سرطان الدم , فيختزل نيرودا كل هذا في جملة قاطعة , لكنها ذات افاق متعددة : ماذا يقول عن شعري الذين لم يلمسوا دمي ؟! .
ما اجترحه نيرودا / الثائر في تطلعاته الممتدة تحت اغشية الحياة ليس سوى استهداف للمتكدس على غلاف العالم الذي يراه الاخرون على السطح و لا يفهمون ما يتكاثر تحته من استفسارات و تناقضات و لا اجوبة , و تلك الاجتراحات المنسابة في تدوينه الاخير ( كتاب التساؤلات )* و الذي انهاه قبل وفاته ببضعة اشهر ما انفكت تؤكد تواشج وعيه مع براءة الطفل الذي مازال حيا فيه , فحينما يدرك العالم و يمسك كدفتي كتاب مقروء حد الفهم و الهضم , يعود المتسائل في رحلة عكسية نحو الذات الاولى / الطفولة , فيستقرأ نيرودا المنحنيات و الانعطافات في مدار جوانيته التي يشك بما تحتويه من كم الطفولة , فيقودنا في سلسلة براءات و استحضارت و تخيلات يانعة تعكس سخرية ذلك العجوز من البدء و الانتهاء , رافضة ما يحيل الحلم الى فراغ داكن , منددة بما يشوب الروح من تجعدات , معلنا كل ذلك في نمط سؤالي يتسم بالرصانة و الهدوء , و اللامبالاة ايضا ً , كمن يتهجى المثير للدهشة في مرته الاولى :
هل في الحياة أسخف من أن تدعى بابلو نيرودا ؟
من أسأل عما جئت أصنعه في هذه الدنيا ؟
أين الطفل الذي كنته ؟ أما زال بداخلي , أم رحل ؟ أيعلم أني لم أحبه و أنه لم يحبني ؟ لماذا أنفقنا كل هذه السنين نكبر لنفترق ؟ لماذا لم نمت عندما ماتت طفولتي ؟

لكن نيرودا يدرك في سره حياة الطفل داخله , و ان كان يبدو عليه ان هناك ثمة تساؤل , لكن هذا ليس سوى نوع من مراوغة الذات و محاولة اقناعها بزوال الازمنة بالتتابع , لاسيما و ان الطفولة تندرج في سياق ماض يحاول هو اظهار عدم التشبث فيه , لكن الالتفاف حول الطفولة ينكشف من خلال الموائمة بين عبث الطفل و حكمة الشيخ في منطقة غرائبية / استهجانية / بريئة / و منكرة ترفض الواقع و انعكاساته المتشظية من خلال صوت الثوري المنبثق من سكينة تكترث بالسعادة ابداً :
أين ترك البدر كيس طحينه الليلة ؟
سأل الجمل السلحفاة : ماذا تحرسين تحت السنام ؟ فأجابت السلحفاة : ماذا تقول للبرتقال ؟
لو نفذ اللون الاصفر , فبماذا نصنع الخبز ؟
هل صحيح أن الشهاب كان حمامة ارجوان ؟
علام َ يضحك البطيخ ساعة ذبحه ؟
حين يتأمل السجين النور , فهل هو النور نفسه الذي يسقط عليك ؟
ما لون نيسان بالنسبة للمريض ؟
و نيرودا الذي اعتبر بيكاسو الشعر يحرص في تأملاته ان يظل بعيدا جدا عن النمطية , منتقلا من صورة نحو اخرى , فكان المناهض للقبح / الذواد عن الفضائل / القارئ للجمال دونما منغصات / الباحث عن الأمل في آخر شهقة حظ / المتحسس مواقع الاصفرار في الروح و المعلن عنها / الدائم الاخضرار خارج هالة وجوده / العاشق بلون متوهج / الثائر الذي يتردد بين الحين و الاخر بين العقيدة و الاديلوجيا / المتماهي مع الهواء الاول / البارع في رسم نص مغاير , عصي الامساك بالصورة الشعرية بشكل تقليدي , و انما بشكل مراوغ للتأويل , المستفهم بنبرة واطئة عميقة :
- لماذا لا يدربون المروحيات على جني العسل من الشمس ؟
- لماذا لا تحلق الطائرات العملاقة مع اطفالها ؟
- هل تنزلق الكلمة أحيانا ً كالأفعى ؟
- من المذنب , الصرخة أم الاسماك الملطخة بالدم ؟
- كم سؤالا ًعند القطة ؟
- هل هذه الهدنة الدائمة نظام أم حرب ؟
- هل يغضب النمل لو صنع الذباب العسل ؟
- لماذا يعرض الربيع ملابسه الخضراء من جديد ؟
- لماذا تنتحر الاوراق عندما تشعر بالاصفرار ؟
- لماذا يكتبون في العصور المظلمة بحبر خفي ؟
- أي شغل شاق يقوم به هتلر في الجحيم ؟ يدهن الحيطان أم الجثث ؟ يستنشق أدخنة الموتى ؟ هل يطعمونه رماد الاطفال المحروقين ؟
و بينما هو يتنقل بين أقبية الحياة و أزقتها , كان بابلو نيرودا يدرك بأن الزمن العام الخارجي لا يشبه زمنه ابدا , لا الساعات هي الساعات و لا الاعوام مشابهة , فزمنه يصل بعضه البعض بلا فواصل غير انفجارات أهوائه و تلاوينه المترامية , و هكذا فهو يقترح زمنه الخاص المنبثق من امساكاته الخاصة و اشتهاءاته الدؤوب , ايضا يحاول اشعال الفتنة للثورة على المحسوب و المحصى لانتظار القادم , و ربما تخيل شكل المجهول , و قد يستعين بمشاكسة بكر لا تريد ان تكبر بتاتا ً:
- ما اسم الشهر الذي يأتي بين كانون الاول و كانون الثاني ؟
- كم عمر تشرين الثاني ؟
- كم نحلة في اليوم ؟
- بأي حق أحصوا حبات العنقود الاثني عشر ؟
- لماذا لم يعطونا شهوراً طويلة تدوم كل السنة ؟
- ما الصورة الحقيقية لنهاية المستقبل ؟
و من زمنه الخاص / المقترح , لم يغمض نيرودا قناعته بأن الروح انما هي تجوال دائم , و قناعاته بالوجود ماهي الا ترجمة انسانية لعبور تلك الروح لإجساد متنوعة بالتعاقب , و مصدر قناعاته تلك ربما من كون الشاعر مارد منتقى معمد بتهاليل الكون , مادته روح خاصة ليست مألوفة , و ليست مجبولة سوى على الانتقال من مادة الى اخرى اي من جسد الى اخر , و بهذا يكون للموت عنده شكل النوم المؤقت في رحلة جوية تنفخ في الزمان و المكان حدثاً مختلفا ً, مستنكرا ً ان يكون هناك موت بمعنى الرقاد الابدي , مستفسرا في احيان اخرى عن مدى حقيقة ان تنوجد للروح حياة واحدة تنتهي بالتوحد مع الارض بصمت مثلما كانت البداية بالتوحد مع الهواء على سطح تلك الارض بصرخة طفولية تنذر بالبدء في منغرس عشقه ( شيلي ) :
- لماذا اخترت الهجرة اذا كانت عظامي تسكن شيلي ؟
أين تذهب أشياء الحلم ؟ هل تنتقل الى احلام الاخرين ؟
أين ينتهي قوس قزح ؟ في روحك أم في الافق ؟
ماذا ستفعل عظامك المحطمة ؟ تبحث عن شكلك من جديد ؟ هل يذوب حطامك في صوت آخر و ضوء آخر ؟ هل تصبح ديدانك جزء من الكلاب أم الفراشات ؟ هل يقبل فمك القرنفل بشفاه اخرى ؟
هل يتكون الموت من العدم أم من مواد خطرة ؟
هل وجدت نفسي أخيراً من حيث أضاعوني ؟
اذا مت و لم اعلم بموتي فمن أسأل عن الوقت ؟
أخيرا ً , أ ليس الموت مطبخا ً متصلا ؟
يبقى بين كل هذا و ذاك حاجز من القلق يستوي بين النضج و البراءة في مخيلة بابلو نيرودا يستند اليه في مواجهة رحتله التي استوعب جيدا مفرداتها و اشاراتها متمكنا دائما من ايجاد معادلات في الشعر قادرة على ابراز المعنى في صورته اليومية , و معززا في نفس الوقت هجسه من الفصول و هي تتعاقب للنيل من روحه و سجنها في جسد قد لا يروق له فيما بعد , و وضعها في دلالاتها المرتبطة بتوالد سنوات العمر , كما وانتخب مادة الطبيعة لمعيار صورته الموجزة ( الارض / الولادة , السماء / الحرية او المجهول , الشجرة / الحياة , الجذور / الطفولة , الأوراق / العطاء ) غير متناسيا لمعان اللون في شحذ كل ما اراد ان يقول :
لماذا تنتحر الاوراق عندما تشعر بالاصفرار ؟
ماذا تعلمت الشجرة من الارض ؟
لماذا تخفي الاشجار روعة الجذور ؟
في الشتاء هل تعيش الاشياء خفية مع الجذور ؟
من هلل لولادة اللون الازرق ؟
أ صحيح أن الخريف ينتظر أمراً وشيكا ً؟ ربما ارتعاشة أو حركة في الكون ؟
متى صدر تحت الارض مرسوم بتسمية الوردة ؟
و لما كان للحضور عنده معنى مشتبك , ضبابي و غير مفهوم غالبا , لذا نراه في بعض المحطات خاضعا لارجحة متكررة أو استنكار سودادي , يؤكد في اي منهما مناخ النهاية المسيطر عليه , و الذي يبدو انه لم يكن يعتبره معطيا للحرية على عكس الكثير من الشعراء , ربما لانه يريد اقتناص كينونة اكبر , فيستدرك في بعض المواقع عجزه عن وضع مسميات او معرفة ماهية ما يمر من بين يديه , مأزوماً بانتظار ما يحاول التنصل منه , تغمره اللاجدوى , و لكن هذه المرة بوعي رجل خالص :
- هل يقاسي الذي ينتظر دائما أكثر من الذي لم يجرب الانتظار ؟
- على أية نافذة وقفت اراقب الزمن المدفون ؟ أو هل ما ارى من بعيد ما لم أحيه بعد ؟
- ماذا نسمي الاعاصير حين تنتهي ؟
- في بحر اللاشيء هل ثمة ملابس للموت ؟
- مذا تعني مثابرتك في دهليز الموت ؟
للمعتاد سطوة كبيرة يعرفها بابلو نيرودا جيدا , لكنه اراد ان يتوغل في التماهي مع السابق و المنتظر , منتصرا في ( كتاب التساؤلات ) الى البراءة في زي الحكمة و هي تختصر مساحة ( مثلث الثورة في داخله ) الشاعر والعاشق و السياسي لتتمركز في الانسان الممتد من الولادة حتى الشتاء و هو يدافع عن تجواله بصوته الذي يعلن لأول مرة الطفولة على الملأ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق